قلت في مقال سابق إن الرأي العام العربي ممزق بين خيار إصلاح الدولة، بالرغم من كل ما يسمها من نقائص، وفي مقدمتها ارتهانها للإرادة الخارجية، المافيوية والأجنبية، على أمل تحسين شروط عملها، وخيار المقاومة الذي يعكس انهيار الثقة بالدولة ويطمح إلى بناء سلطة أهلية، متحررة من الهيمنة الأجنبية، وقادرة على تلبية مطالب المجتمعات المتعلقة بالاستقلال الضامن للكرامة والهوية. وبينت في مقال آخر كيف أن سياسات السيطرة الخارجية قد قوضت مشروع الدولة ووضعته على طريق مسدود، كما يشير إلى ذلك تعثر خطط الاصلاح وموتها قبل أن ترى النور. وبالمثل كيف أن المقاومة التي نشأت في سياق الصراع ضد الدولة القاصرة، وعلى أنقاض الوطنيات التي نشأت بعد الاستقلال، قد ولدت بالضرورة في إطار مقاومات محمولة على العصبية، مما يحرمها من أي أمل في أن تقود إلى طريق آخر غير الصدامات المذهبية والطائفية والإثنية والدينية. فهي بالتعريف غير قادرة على إعادة بناء الوطنية السياسية التي تشكل روح الدولة القانونية التي تساوي بين المواطنين وتجمع بينهم وتوحدهم في إطار واحد يتجاوز الولاءات الجزئية العقائدية والإثنية. وكل يوم يمر يتأكد فيه بشكل أكبر الوصول إلى هذا الطريق المسدود الذي دخل فيه مشروع الدولة، وطريق الفوضى الذي يهدد بإدخالنا فيه مشروع المقاومات المذهبية. وما حصل في الأيام القليلة الماضية من استعراض ميليشيات "القاعدة" لقوتها في شوارع الرمادي العراقية يعكس تماماً مستقبل المجتمعات الخاضعة لمقاومات لا يمنعها عداؤها الفعلي والقاسي للأجنبي من أن تسير في اتجاه بناء بلدان تحكمها ميليشيات خاصة، تلغي مشروع الدولة القانونية، وتقود حتما إلى تعميق الانقسامات والنزاعات الداخلية. تماما كما عكس انهيار حلم الدولة الفلسطينية الموعودة، وتفجر الصراع على السلطة الوطنية الوهمية بين القوى القومية والاسلامية في فلسطين، المأزق الذي وصل إليه مشروع الدولة المرتهنة للاجنبي والمفرغة من الاستقلال والسيادة. في هذه الحالة على ماذا يمكن للشعوب العربية أن تراهن للخروج من الوضع المتردي الذي تعيشه على جميع المستويات، وما هو البديل لسياسات إصلاح الدولة وتوسيع نطاق المقاومة؟ ربما كان من الضروري إعادة النظر بالسؤال نفسه، أي في إمكانية الفصل بين الدولة والمقاومة أصلاً. فالدولة الحديثة من حيث هي دولة المواطنين، والتجسيد لإرادتهم تفترض من داخلها مبدأ المقاومة، أي التصدي لكل محاولات مصادرة هذه الإرادة من قبل قوة داخلية أو خارجية، ولا تستقيم من دون ضمان حق المقاومة، بل الثورة، لتأكيد قيم الحرية والمواطنية والسيادة الشعبية ضد مغتصبيها. وبالمثل ليس لأي مقاومة قيمة وشرعية إذا لم تقد إلى بناء هذه الدولة القانونية المواطنية التي تضمن الحريات والحقوق المتساوية. والفرق بين التمرد والمقاومة يكمن بالضبط في أن التمرد هو سمة الحركات التي تقف ضد الدولة رفضاً للقانون والشرعية، بينما تقوم المقاومة لتأكيد تطبيق القانون المصادر وشرعيته. فأي دولة من دون ضمان حق مقاومة الشعب مدانة بالتحول إلى مملكة خاصة، وأي مقاومة لا تنطلق من مبدأ تحقيق الحرية والسيادة الشعبية والقانون تتحول إلى تمرد يعطل إمكانية نشوء دولة جديدة مؤسسة على مبادئ العدل والشرعية بدل تقريب أجلها. وهذا الارتباط بين المقاومة التي تجسد المصدر الشعبي للسلطة، وتعبر عن إرادة المجتمع التي تكمن وراء الدولة، وتضمن السير السليم لمؤسساتها، والدولة التي تشكل التجسيد المؤسساتي لحكم الحرية والسيادة والقانون، هي أساس تنظيم الإرادة الشعبية على أسس قانونية وعقلانية سليمة. ولا يحصل التناقض بينهما إلا عندما تخرج الدولة عن إرادة المجتمع أو يتجاوز المجتمع في وعيه المؤسسات التي تجاوزها الزمن. والقصد، لا ينبغي لإخفاق "شبه الدولة" التي نشأت في بعض بلداننا تحت الوصاية الاستعمارية المستمرة أن تدفعنا إلى الكفر بها كإطار شرعي وعقلاني وحيد لتنظيم الحياة الاجتماعية أو جزء كبير منها. ولا لتصدي المقاومة للقوى الأجنبية أن يمنعنا من إدراك مخاطر الانقسامات العصبوية، المذهبية والطائفية. والمطلوب هو بالعكس استعادة مشروع الدولة وانتزاعه من حجر استراتيجيات السيطرة الدولية وتأهيله، وإصلاح المقاومة الأهلية التي لا قوام لدولة ولا ضمان لحرية وسيادة من دونها. وهو ما يتطلب العمل على إعادة الانسجام بينهما، بوصفهما مبدأين ناظمين للحياة السياسية في عصرنا: مبدأ السيادة (للدولة) والحرية (للمجتمع). فبالحرية نضمن عدم استلاب الدولة للقوى الخارجية، محلية أو أجنبية، وبالسيادة نقي المقاومة من التحول إلى تمرد وخروج على القانون والشرعية. أي نؤكد تحرير الدولة من ارتهانها لغير الإرادة الاجتماعية، وتحرير المجتمع من الارتهان لإرادة قوى معادية للدولة، ومانعة من إعادة بنائها كدولة مواطنيها، بصرف النظر عن إنتماءاتهم وأصولهم الإثنية. لا ينشأ هذا الانسجام بين المبدأين من تلقاء نفسه، ولكنه يحتاج إلى البناء. ويستدعي البناء العمل الواعي والدؤوب ضد الانحرافين القائمين معا: على صعيد بنية الدولة وبنية المقاومة. وبقدر ما يعكس هذان الانحرافان تحلل العقد الوطني، يستدعي تصويب عمل الدولة والمقاومة انبعاثاً أو بعثاً فكرياً وسياسياً لفكرة الوطنية الجامعة. وكما أن قصر الوطنية العربية في المرحلة القومية السابقة على مواجهة السيطرة الغربية وتأكيد الذات ضد الآخر كان هو السبب الرئيسي في موتها، بعد أن قادها إلى سراديب التسلطية المظلمة، تشكل إعادة إحياء قيم المواطنية، والدفاع عن الحريات الفردية، وحق المقاومة الاجتماعية لسلطات الفساد والنهب والتسلط السائدة، أي لتمرد النخب الحاكمة على الشرعية والقانون، الشرط الرئيسي لولادة وطنية عربية جديدة وانبعاثها. وهي شرط إعادة بناء الدولة كدولة مواطنيها ومبرر وجودها. وبقدر ما يتقدم هذا النشاط النقدي، الأخلاقي والفكري والسياسي الذي يتصدى لتحقيق مهامه مثقفون وناشطون مدنيون وسياسيون من كل الاتجاهات، تتطور بإزائه حركة مقاومة وطنية تجمع بين مهام التصدي للاستبداد، وما يمثله من اغتصاب الدولة ومصادرة الإرادة العامة، وتغليب الولاءات الخاصة على الخضوع الطوعي الجامع للقانون من جهة، ومهام التصدي للهيمنة الأجنبية التي تمنع الدولة من الانصياع لإرادة مجتمعها ومواطنيها من جهة ثانية. في هذه الحالة لن تكون المقاومة لا نقيضاً للدولة وسيطرة حكم القانون، ولا وسيلة للتغطية على الحرب الأهلية واغتصاب الإرادة العامة، ولكن عملية إعادة بناء أخلاقية وقانونية وسياسية للحقيقة الوطنية، على مستوى المجتمع المدني ومستوى الدولة معاً. وتتطابق مع عملية تأهيل الدولة لجعلها دولة الجماعة، وتأهيل الجماعة لجعلها جماعة سياسية مدنية متجاوزة للانقسامات العصبوية. وفي هذه الحالة سيحل محل التعارض المصطنع بين الدولة كرمز للسيادة، والمقاومة كرمز لتأكيد الهوية الاجتماعية والشعبية، وحدة عميقة بين الدولة كقاعدة للحياة القانونية والمؤسسية التي تضمن حقوق الأفراد وحرياتهم وتطمئنهم عليها، والمقاومة التي تشكل روح الوطنية السارية في الدولة والجاهزة في كل مرة تتعرض فيها للتهديد، من الداخل والخارج، إلى الانطلاق لتثبيت مبادئ السيادة والاستقلال تجاه العدوان الخارجي الواقع، وتثبيت حقوق الأفراد وحرياتهم تجاه العدوان الداخلي الناجم عن جنوح بعض جماعاتها إلى مصادرتها لجعل الدولة آلة في خدمة مصالحهم الخاصة وتلبية مطامعهم. الدمج بين الدفاع عن الوطن ضد الضغوط الخارجية، والعمل على تحريره من شياطينه الاستبدادية والطائفية والمذهبية الداخلية، وتعميم رؤية ديمقراطية تؤكد على حقوق الأفراد وحرياتهم وعلى المساواة التامة فيما بينهم، ينبغي أن يكون إذن جوهر برنامج المقاومة العربية المنشودة، بقدر ما يشكل هو نفسه أساس بناء الوطنية وتجاوز النزاعات والانقسامات العصبوية في أي مكان.